فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}.
في تأخير العقوبة وإدرار الرزق {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} فضله ونعمه.
قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي تخفي صدورهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} يظهرون من الأمور.
وقرأ ابن محيصن وحميد {مَا تَكُنُّ} من كَننتُ الشيء إذا سترتَه هنا.
وفي القصص تقديره: ما تَكُنّ صدورهم عليه؛ وكأن الضمير الذي في الصدور كالجسم الساتر.
ومن قرأ: {تُكِنُّ} فهو المعروف؛ يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك.
قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السماء والأرض إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} قال الحسن: الغائبة هنا القيامة.
وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض؛ حكاه النقاش.
قال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام.
وإنما دخلت الهاء في {غَائِبَةٍ} إشارة إلى الجمع؛ أي: ما من خَصْلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسرّ هؤلاء وما يعلنونه.
وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له؛ فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه.
والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته.
قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم بعضًا فنزلت.
والمعنى: إن هذا القرآن يبيّن لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرّفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام.
{وَإِنَّهُ} يعني القرآن {لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ} خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به.
{إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ} أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازي المحقّ والمبطل.
وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرّفوه.
{وَهُوَ العزيز} المنيع الغالب الذي لا يردّ أمره {العليم} الذي لا يخفى عليه شيء.
قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوّض إليه أمرك واعتمد عليه؛ فإنه ناصرك.
{إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} أي الظاهر.
وقيل: المظهر لمن تدبر وجه الصواب.
{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} يعني الكفار لتركهم التّدبر؛ فهم كالموتى لا حسّ لهم ولا عقل.
وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن.
{وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ؛ فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولّوا كأنهم لا يسمعون؛ نظيره: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] كما تقدّم.
وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو: {وَلاَ يَسْمَعُ} بفتح الياء والميم {الصُّمُّ} رفعًا على الفاعل.
الباقون {تُسْمِعُ} مضارع أسمعت {الصُّمَّ} نصبًا.
مسألة:
وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية؛ فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أنتم بِأَسْمَعَ مِنْهم» قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رّد الله إليهم إدراكًا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين.
قلت: روى البخاري رضي الله عنه؛ حدّثني عبد الله بن محمد سمع رَوْح بن عُبادة قال: حدّثنا سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة قال: ذَكَر لَنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش فقُذِفوا في طَوِيٍّ من أطواء بدر خَبيثٍ مُخْبِث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليومَ الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلُها ثم مشى وتبعه أصحابُه، قالوا: ما نُرَى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الرَّكِيِّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؛ فإنا قد وجدنا ما وَعَدنا ربّنا حقًّا فهل وجدتم ما وَعَد رَبُّكم حقًّا؛ قال فقال عمر: يا رسول اللها ما تُكلِّم من أجساد لا أرواح لها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم».
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونِقمةً وحسرةً وندمًا.
خرجه مسلم أيضًا.
قال البخاري: حدّثنا عثمان قال حدّثنا عَبْدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قلِيب بدر فقال: «هل وجدتم ما وَعَد رَبُّكُمْ حَقًّا» ثم قال: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» ثم قرأتْ {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} حتى قرأت الآية.
وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه، إلى غير ذلك؛ فلو لم يسمع الميت لم يُسلَّم عليه.
وهذا واضح وقد بيّناه في كتاب التذكرة.
قوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ} أي كفرهم؛ أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم.
وقرأ حمزة: {وَمَا أَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ} كقوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي} [يونس: 43].
الباقون: {بِهَادِي الْعُمْي} وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي الروم مثله.
وكلهم وقف على {بِهَادِي} بالياء في هذه السورة وبغير ياء في الروم اتباعًا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعًا بالياء.
وأجاز الفراء وأبو حاتم: {وَمَا أَنْتَ بهَادٍ الْعُمْيَ} وهي الأصل.
وفي حرف عبد الله {وَمَا أَنْ تَهْدِي الْعُمْيَ}.
{إِن تُسْمِعُ} أي ما تسمع.
{إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} قال ابن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذُو إفضالٍ وإنعامٍ على كافَّة النَّاسِ. ومن جُملةِ إنعاماتِه تأخيرُ عقوبةِ هؤلاءِ على ما يرتكبونَهُ من المَعَاصي التي من جُملتِها استعجالُ العذابِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} لا يعرفون حقَّ النعمةِ فيه فلا يشكرونَهُ بل يستعجلونَ بجهلِهم وقوعَهُ كدأبِ هؤلاءِ.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي ما تُخفيه. وقُرىءَ بفتحِ التَّاءِ من كننتُ الشيءَ إذا سترتُه {وَمَا يُعْلِنُونَ} من الأفعالِ والأقوالِ التي مِن جُملتِها ما حُكي عنهم من استعجالِ العذابِ وفيه إيذانٌ بأنَّ لهم قبائحَ غيرَ ما يُظهرونَهُ وأنَّه تعالَى يُجازيهم على الكلِّ. وتقديمُ السرِّ على العَلَن قد مرَّ سرُّه في سُورةِ البقرةِ عند قولِه تعالى: {أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ في السماء والأرض} أي من خافيةٍ فيهما وهُما من الصِّفاتِ الغالبةِ. والتَّاءُ للمبالغة كَما في الرِّوايةِ أو اسمانِ لما يغيبُ ويَخْفى والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} أيْ بيِّنٍ أو مُبينٍ لما فيهِ لَمنْ يُطالعه وهو اللَّوحُ المحفوظُ، وقيلَ هُو القضاءُ العدلُ بطريقِ الاستعارةِ.
{إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} منْ جُملتِه ما اختلفُوا في شأنِ المسيحِ وتحزَّبُوا فيهِ أحزابًا وركبُوا متنَ العُتوِّ والغُلوِّ في الإفراطِ والتَّفريطِ والتَّشبيهِ والتَّنزيهِ ووقعَ بينُهم التَّناكُدُ في أشياءَ حتَّى بلغَ المُشاقَّة إلى حيثُ لعنَ بعضُهم بعضًا وقد نزلَ القرآنُ الكريمُ ببيانِ كُنْهِ الأمرِ لو كانُوا في حيِّز الإنصافِ.
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ} على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم مَن آمنَ مِن بني إسرائيلَ دُخولًا أَوَّلِيًا.
{إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم} أي بينَ بني إسرائيلَ {بِحُكْمِهِ} بما يحكمُ بهِ وهو الحقُّ أو بحكمتِه ويؤيدُه أنَّه قرئ بحُكمه {وَهُوَ العزيز} فلا يردُّ حكمُه وقضاؤُه {العليم} بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُملتها ما يقضى بهِ والفاءُ في قولِه تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} لترتيبِ الأمرِ على ما ذُكر من شئونه عزَّ وجلَّ فإنَّها موجبةٌ للتوكلِ عليهِ وداعيةٌ إلى الأمرِ بهِ أي فتوكَّل عَلى الله الذي هَذا شأنُه فإنَّه موجبٌ على كلِّ أحدٍ أنْ يتوكلَ عليهِ ويفوض جميعَ أمورِه إليهِ وقوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} تعليلٌ صريحٌ للتَّوكلِ عليه تعالَى بكونِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ البيِّنِ أو الفاصلِ بينَهُ وبينَ الباطلِ أو بينَ المُحقِّ والمُبطلِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلكَ ممَّا يُوجبُ الوثوقَ بحفظِه تعالى ونُصرتِه وتأييدِه لا محالةَ.
وقولُه تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} الخ تعليلٌ آخرُ للتَّوكلِ الذي هُو عبارةٌ عن التَّبتلِ إلى الله تعالى وتفويضِ الأمرِ إليهِ والإعراضِ عن التشبثِ بما سِواه وقد عُلِّل أولًا بما يُوجبه من جهتِه تعالى أعني قضاءَهُ بالحقِّ وعزَّتِه وعلمهِ تعالى وثانيًا بما يُوجبه من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أحدِ الوجهينِ أعنِي كونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ ومن جهتِه تعالى على الوجهِ الآخرِ أعني إعانتَه تعالى وتأييدَه للحقِّ.
ثم عُلِّل ثالثًا بما يُوجبه لكنْ لا بالذَّاتِ بل بواسطةِ إيجابِه للإعراضِ عن التَّشبثِ بما سِواه تعالى فإنَّ كونَهم كالمَوتى والصُمِّ والعُمْي موجبٌ لقطعِ الطمعِ عن مشايعتِهم ومعاضدتِهم رأسًا وداعٍ إلى تخصيصِ الاعتضادِ به تعالى وهو المعنى بالتَّوكل عليه تعالى وإنَّما شُبِّهوا بالموتى لعدمِ تأثرِهم بما يُتلى عليهم من القوارعِ. وإطلاقُ الإِسماعِ عن المفعولِ لبيانِ عدمِ سماعهم لشيءٍ من المسموعاتِ ولعلَّ المرادَ تشبيهُ قلوبِهم بالمَوتى فيما ذُكر من عدمِ الشُّعور فإنَّ القلبَ مَشعرٌ من المشاعرِ أشُير إلى بطلانِه بالمرةِ ثم بُيِّن بطلانُ مشعري الأذنِ والعينِ كما في قولِه تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} وإلا فبعد تشبيهِ أنفسِهم بالمَوتى لا يظهر لتشبيهِهم بالصُّمِّ والعُمي مزيدُ مزيةٍ. {لاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} أي الدَّعوةَ إلى أمرٍ من الأمُور، وتقييدُ النفيِّ بقوله تعالى: {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} لتكميلِ التشبيهِ وتأكيدِ النفيِّ فإنَّهم مع صَمَمِهم عن الدُّعاء إلى الحقِّ معُرضونَ عن الدَّاعي مولُّون على أدبارِهم، ولا ريبَ في أنَّ الأصمَّ لا يسمعُ الدُّعاءَ مع كونِ الدَّاعِي بمقابلةِ صُماخه قريبًا فكيفَ إذا كانَ خلفَهُ بعيدًا منه. وقُرىء ولا يَسمعُ الصمُّ الدعاءَ.
{وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم}.
هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ كما في قولِه تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} فإنَّ الاهتداءَ منوطٌ بالبصرِ، وعن متعلِّقِةٍ بالهدايةِ باعتبارِ تضمنِه معنى الصَّرفِ وقيل: بالعمى عن كذا وفيهِ بعدٌ. وإيرادُ الجُملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في نَفي الهِداية. وقُرىء وما أنت تَهدي العُميَ {إِن تُسْمِعُ} أي ما تُسمع سماعًا يُجدي السامعَ نفعًا {إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا} أي مَن مِن شأنِهم الإيمانُ بها. وإيرادُ الإسماعِ في النفيِّ والإثباتِ دونَ الهدايةِ مع قُربها بأنْ يقالَ إنْ تُهدي إلا مَن يُؤمن الخ لِما أنَّ طريقَ الهدايةِ هو إسماعُ الآياتِ التنزيليَّةِ {فَهُم مُّسْلِمُونَ} تعليلٌ لإيمانِهم بَها كأنَّه قيلَ فإنَّهم مُنقادونَ للحقَّ. وقيلَ: مُخلصون لله تعالى من قولِه تعالى: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذو إفضال وإنعام كثير على كافة الناس، ومن جملة إفضاله عز وجل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون جل وعلا على إفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء، وقيل: لا يعرفون حق فضله تعالى عليهم تعبيرًا عن انتفاء معرفتهم ذلك بانتفاء ما يترتب عليها من الشكر.
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي ما تخفيه من الأسرار التي من جملتها عداوتك {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي وما يظهرونه من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما حكى عنهم فليس تأخير عقوبتهم لخفاء حالهم عليه سبحانه، أو فيجازيهم على ذلك، وفعل القلب إذا كان مثل الحب والبغض والتصديق والتكذيب والعزم المصمم على طاعة أو معصية فهو مما يجازي عليه، وفي الآية إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكى عنهم، وتقديم الاكتنان ليظهر المراد من استواء الخفي والظاهر في علمه جل وعلا، أو لأن مضمرات الصدور سبب لما يظهر على الجوارح، وإلى الرمز إلى فساد صدورهم التي هي المبدأ لسائر أفعالهم أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال: وإن ربك ليعلم ما يكنون وما يعلنون.
وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميقع {تَكُنْ} بفتح التاء وضم الكاف من كن الشيء ستره وأخفاه.
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ في السماء والأرض} أي من شيء خفي ثابت الخفاء فهيما؛ على أن {غَائِبَةٍ} صفة غلبت في هذا المعنى فكثير عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت وإن لم تنقل إلى الإسمية كمؤمن وكافر، فتاؤها ليست للتأنيث إذ لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالراوي للرجل الكثير الرواية فهي تاء مبالغة، ويجوزأن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى، والتاء فيها للنقل كما في الفاتحة، والفرق بين المغلب والمنقول على ما قال الخفاجي إن الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني.
والظاهر عموم الغائبة أي ما من غائبة كائنة ما كانت {أَلا في كتاب مُّبِينٍ} أي بين، أو مبين لما فيه لمن يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم السلام وهو اللوح المحفوظ، واشتماله على ذلك إن كان متناهيًا لا إشكال فيه وإن كان غير متناه ففيه إشكال ظاهر ضرورة قيام الدليل على تناهي الأبعاد واستحالة وجود ما لا يتناهى، ولعل وجود الأشياء الغير المتناهية في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ على نحو ما يزعمونه من وجود الحوادث في الجفر الجامع وإن لم يكن ذلك حذو القذة بالقذة.
وقيل: المراد بالكتاب المبين علمه تعالى الأذلي الذي هو مبدأ لإظهار الأشياء بالإرادة والقدرة، وقيل: حكمه سبحانه الأذلي وإطلاق الكتاب على ما ذكر من باب الاستعارة ولا يخفى ما في ذلك.